كنيسة محطمة وأرواح مكلومة.. كيف يدفع مدنيو الكونغو فاتورة العنف والصراعات؟
كنيسة محطمة وأرواح مكلومة.. كيف يدفع مدنيو الكونغو فاتورة العنف والصراعات؟
تتجدد فصول المأساة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث لا يزال العنف المسلح يلقي بظلاله القاتمة على حياة المدنيين الأبرياء. ففي حادثة مروعة، شهدت بلدة كوماندا شمال شرق البلاد هجومًا وحشيًا استهدف كنيسة كاثوليكية، أسفر عن مقتل أكثر من 40 شخصًا، بينهم تسعة أطفال، في مذبحة نفذتها "القوات الديمقراطية المتحالفة" (ADF).
وأنهى هذا الهجوم فترة من الهدوء النسبي، يعيد تسليط الضوء على أزمة متجذرة ومعقدة، تتداخل فيها المصالح الاقتصادية، والصراعات الإثنية، وغياب الاستقرار السياسي، لتخلق بيئة خصبة لانتشار الجماعات المسلحة وتفاقم الانتهاكات الحقوقية.
القوات الديمقراطية المتحالفة
تُعد "القوات الديمقراطية المتحالفة" (ADF) واحدة من أخطر الجماعات المسلحة الناشطة في شرق الكونغو الديمقراطية، وتحديدًا في مقاطعتي شمال كيفو وإيتوري، نشأت هذه الجماعة باعتبارها حركة تمرد أوغندية في الأصل، لكنها وسعت نطاق عملياتها لتشمل الكونغو، حيث استغلت ضعف سيطرة الدولة ووفرة الموارد الطبيعية، فمنذ عام 2019، أعلنت الجماعة ولاءها لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي أصبح يطلق عليها اسم "الدولة الإسلامية-ولاية وسط إفريقيا"، ما أضاف بعدًا إرهابيًا جديدًا لوحشيتها.
وتتميز هجمات القوات الديمقراطية المتحالفة بالعنف المفرط ضد المدنيين، بما في ذلك المذابح باستخدام السواطير، وعمليات الخطف، والنهب، وتدمير الممتلكات، وتستهدف الجماعة القرى، والمخيمات، وحتى أماكن العبادة، بهدف نشر الرعب والسيطرة على المناطق الغنية بالموارد.
وعلى الرغم من العمليات العسكرية المشتركة بين الجيش الكونغولي والقوات الأوغندية التي بدأت عام 2021 لاستهداف عناصرها، فإن الهجمات الدامية لم تتوقف، ما يشير إلى قدرة الجماعة على التكيف وإعادة التموضع.
أسباب أزمة العنف المسلح
تتعدد الأسباب التي تغذي دوامة العنف في شرق الكونغو الديمقراطية، وتشكل شبكة معقدة من العوامل التاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، مثل:
الصراع على الموارد الطبيعية، حيث تُعد شرق الكونغو الديمقراطية غنية بالمعادن الثمينة مثل الكولتان، والكاسيتريت، والذهب، والماس. هذه الموارد تجذب العديد من الجماعات المسلحة، بما في ذلك القوات الديمقراطية المتحالفة، التي تسعى للسيطرة على مناطق التعدين وتهريب المعادن لتمويل عملياتها. هذا الصراع على الموارد يؤجج العنف ويجذب أطرافًا إقليمية ودولية.
وفيما يتعلق بضعف الدولة وغياب سيادة القانون، تعاني الحكومة المركزية في الكونغو الديمقراطية من ضعف في السيطرة على المناطق الشرقية، ما يخلق فراغًا أمنيًا تستغله الجماعات المسلحة. يضاف إلى ذلك تفشي الفساد، وضعف المؤسسات القضائية والأمنية، ما يؤدي إلى غياب المساءلة والإفلات من العقاب لمرتكبي الجرائم.
ومن ناحية التوترات الإثنية والإقليمية فقد شهدت المنطقة تاريخيًا توترات بين المجموعات الإثنية المختلفة، والتي غالبًا ما يتم استغلالها من قبل الجماعات المسلحة لتجنيد المقاتلين وتغذية الصراعات، كما أن للنزاعات الإقليمية بين الكونغو وجيرانها، مثل رواندا وأوغندا، دورًا في تعقيد المشهد الأمني.
ويعيش غالبية سكان شرق الكونغو في فقر مدقع، ويعانون من نقص الخدمات الأساسية، ما يجعلهم عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المسلحة التي تقدم لهم وعودًا زائفة بالمال أو الحماية.
ويُسهم الانتشار الواسع للأسلحة الخفيفة والمتوسطة في المنطقة في تفاقم العنف، ويسهل على الجماعات المسلحة الحصول على العتاد اللازم لشن هجماتها.
التداعيات الحقوقية والإنسانية
تُعد التداعيات الحقوقية والإنسانية للعنف المسلح في الكونغو الديمقراطية كارثية، حيث يدفع المدنيون الثمن الأكبر. "جسور بوست" ترصدها فيما يأتي:
القتل والتهجير القسري: تُعد عمليات القتل الجماعي، كما حدث في كوماندا، أمرًا شائعًا. كما أن العنف يجبر مئات الآلاف من الأشخاص على الفرار من منازلهم، ليصبحوا نازحين داخليًا يعيشون في ظروف مزرية، ويعتمدون على المساعدات الإنسانية.
العنف الجنسي: يُستخدم العنف الجنسي، وخاصة الاغتصاب، سلاحَ حرب من قبل الجماعات المسلحة، ما يترك ضحاياه يعانون من صدمات جسدية ونفسية عميقة، ووصمة عار اجتماعية.
تجنيد الأطفال: تُجبر الجماعات المسلحة الأطفال على الانضمام إلى صفوفها، واستخدامهم مقاتلين أو حمالين، أو جواسيس، أو لأغراض جنسية، ما يحرمهم من طفولتهم ومستقبلهم.
تدمير سبل العيش: يؤدي العنف إلى تدمير البنية التحتية، وتعطيل الزراعة والتجارة، ما يزيد من الفقر وانعدام الأمن الغذائي في المناطق المتضررة.
تقويض الحقوق الأساسية: تُقوض الهجمات المسلحة الحق في الحياة، والأمن الشخصي، والتعليم، والصحة، وحرية التنقل، ما يحرم ملايين الكونغوليين من أبسط حقوقهم الإنسانية.
صوت الضمير العالمي
لم تغفل المنظمات الحقوقية والأممية والصحافة الدولية عن رصد وتوثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في شرق الكونغو الديمقراطية، ودعت مرارًا إلى اتخاذ إجراءات حاسمة
بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو (MONUSCO) تلعب دورًا حيويًا في حماية المدنيين، وتوثيق الانتهاكات، وتقديم المساعدة الإنسانية، وقد أدانت البعثة بشدة الهجوم على كنيسة كوماندا، مؤكدة: "هذه الهجمات التي تستهدف المدنيين العزل، وخاصة في أماكن العبادة، ليست مقززة فحسب، بل إنها تتعارض أيضًا مع جميع معايير حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي". وتصدر البعثة تقارير منتظمة توثق فيها حجم العنف وتداعياته.
ودعت منظمة العفو الدولية مرارًا السلطات الكونغولية والمجتمع الدولي إلى حماية المدنيين، وتقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة، ومعالجة الأسباب الجذرية للعنف. وقد أصدرت تقارير مفصلة توثق فيها الفظائع التي ترتكبها الجماعات المسلحة، بما في ذلك القوات الديمقراطية المتحالفة، وتطالب بوضع حد للإفلات من العقاب.
وبدورها سلطت هيومن رايتس ووتش الضوء على الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، بما في ذلك عمليات القتل الجماعي، والعنف الجنسي، وتجنيد الأطفال. ودعت إلى تعزيز سيادة القانون، ودعم الإصلاحات الأمنية، ومعالجة الفساد.
وتعمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) على تقديم المساعدة والحماية للنازحين واللاجئين الكونغوليين، وتوثق أعدادهم المتزايدة وحاجاتهم الملحة.
نزيف مستمر
تُشير الإحصاءات إلى حجم الكارثة الإنسانية في الكونغو الديمقراطية، فمنذ عام 1996، أسفرت الصراعات المتتالية في البلاد عن مقتل الملايين، سواء بشكل مباشر بسبب العنف أو بشكل غير مباشر بسبب الأمراض والجوع المرتبطين بالنزاع، وفي السنوات الأخيرة، استمرت أعداد الضحايا في الارتفاع، خاصة في شرق البلاد، على سبيل المثال: قتلت القوات الديمقراطية المتحالفة وحدها آلاف المدنيين في شمال شرق الكونغو الديمقراطية على مدار السنوات القليلة الماضية، مع تزايد وتيرة الهجمات في بعض الفترات.
تاريخيًا، شهدت الكونغو الديمقراطية عقودًا من عدم الاستقرار السياسي، والصراعات الإقليمية، والتدخلات الخارجية، منذ استقلالها عن بلجيكا عام 1960، فترات الديكتاتورية، والحرب الأهلية، وصراع الميليشيات، كلها أسهمت في إضعاف الدولة وتأجيج العنف. إن الإرث الاستعماري الذي ترك وراءه حدودًا مصطنعة وصراعات إثنية، بالإضافة إلى لعنة الموارد الطبيعية التي جذبت الأطماع، كلها عوامل تاريخية أسهمت في تشكيل المشهد الحالي للعنف.